يذكر التاريخ أن عبد الله بن الزبير وقف في وجه يزيد بن معاوية حين ورث الحكم عن أبيه فلما مات يزيد ونحي ابنه وتولى مروان بن الحكم، استفحل أمرعبد الله بن الزبير وامتد سلطانه حتى ضم الحجاز واليمن والعراق وخراسان، إلى أن مات مروان بن الحكم ودعا ابنه عبد الملك لنفسه وأجابه أهل الشام فخطب على المنبر وقال من لابن الزبير منكم؟ فقال الحجاج بن يوسف الثقفي أنا يا أمير المؤمنين فأسكته، ثم عاد فأسكته ثم عاد فقال : أنا يا أمير المؤمنين فإني رأيت في النوم أني انتزعت جبته فلبستها فوافق عبد الملك وعقد له القيادة . يروى أن الحجاج حاصر ابن الزبير في الحرم قريباً من سبعة أشهر يرميه بالمنجنيق. ـ فتفرق الناس عنه فدخل عبدالله على أمه قائلاً : يا أماه قد خذلني الناس حتى ولدي وأهلي ولم يبق معي إلا اليسير ومن ليس عنده أكثر من صبر ساعة والقوم يعطونني ما أردت من الدنيا . فما رأيك ؟ يقصد أن بني أمية يساومونه على أن يترك لهم الأمر ويوفرون له ما أراد من أمر الدنيا.
فقالت أمه: يا بني أنت أعلم بنفسك، إن كنت تعلم أنك على حق وإليه تدعو فامض له فقد قتل عليه أصحابك ( ولا تمكن من رقبتك فيتلاعب برأسك غلمان بني أمية ) وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت أهلكت نفسك ومن قتل معك ، وإن قلت : كنت على الحق فلما وهن أصحابي ضعفت فهذا ليس فعل الأحرار ولا أهل الدين ، كم خلودك في الدنيا؟ القتل أحسن.
فقال عبد الله يا أماه ، أخاف إن قتلني أهل الشام أن يمثلوا بي ويصلبوني. عندها قالت قولتها المشهورة : يا بني لا يضر الشاة سلخها بعد ذبحها فامض على بصيرتك واستعن بالله. فقال لها: هذا رأيي الذي قمت به داعياً إلى يومي هذا، ما ركنت إلى الدنيا وما أحببت الحياة فيها وما دعاني إلى الخروج على القوم إلا الغضب لله أن تستحل حرماته ولكني أحببت أن أعلم رأيك فقد زدتني بصيرة فانظري يا أماه فإني مقتول في يومي هذا فلا يشتدن حزنك من يمنع الإنسان من أجله إنها الحقيقة التي لا مراء فيها، الحقيقة التي اعتنقتها أسماء وهي تعزي نفسها في ابنها الغالي وقد نعى نفسه بين يديها.
ما أقواها وأصبرها وهي تقول له: إني لأرجو أن يكون عزائي فيك جميلاً إن تقدمتني احتسبتك وإن ظفرت سررت بظفرك ، اخرج حتى أنظر إلام يصير أمرك. يروون أنه تركها وبات يصلي ليلته حتى أذن الفجر فصلى وحرض أصحابه على القتال فحملوا معه على قلة عددهم فجاءته آجره فأصابته في وجهه فارتعد لها وأدرك أنها النهاية. فلما أحس سخونة الدم على وجهه وصدره قال: ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ولكن على أقدامنا يقطر الدما، ثم سقط على الأرض فأسرعوا إليه فقتلوه، وعلم الحجاج فخر ساجداً وحز رأسه وأرسلها إلى عبد الملك بن مروان وصلب جسده وفجعت امه الحجاج بقولها وإني لأشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يخرج من ثقيف كذاب ومبير) أما الكذاب فرأيناه (وكان هو المختار بن أبي عبيد الثقفي)، وأما المبير (تعني الطاغية المهلك) فلا أخاله إلا أنت.
فما نبس الحجاج ببنت شفة وقام ولم يرجع. لكن ابنها ظل معلقاً وهي تمر عليه جيئة وذهاباً تتساءل في ثباتها أما آن لهذا الفارس أن يترجل، ثم قالت اللهم لا تمتني حتي أوتي به فأحنطه وأكفنه .فأتيت به فحنطته وكفنته بعدما ذهب بصرها وما أتت عليها جمعة إلا ولحقت به سنة ثلاث وسبعين للهجرة فكانت خاتمة المهاجرين والمهاجرات رحم الله أم عبدالله التي ألهمها الله الحق فلزمته ولم تزغ عنه طرفة عين فأورثها جرأته وثباته وشدته وشجاعته، وغرس فيها بذور الحقيقة فلم يهتز لها موقف أو يشوش لها فكر فملكت عبقرية الحق ووضوح الحقيقة وسلامة الرأي.
كانت بحق خالدة في موكب الخالدين وستظل نموذجاً لأجيال من السيدات والسادة.